لم يتوقف الراحل هادي بوشماوي عن السعي لإرضاء طموح لا سقف له. لقد دخل باب مغامرة عالم النفط ، التي كانت بمقياس عصره مجازفة كبرى.
وهو يتمتع بخبرة مهنية إستثنائية، حيث كان لا يخشى اتخاذ أي قرار وٲي إجراء يرتقي بمؤسساته.
لقد غامر بدخول مجال كان ولا يزال، حكرا على الشركات الأجنبية لأنه يتطلب توفر استثمارات وأموال طائلة وتقنيات دقيقة وكفاءات عالية، وحين تكون من العالم الثالث، تزداد المسألة تعقيدا لأنك ستلعب في حلبة مميزة، المنافسة فيها شرسة ولا ترحم: إنه عالم النفط.
ومع ذلك، أبحر هادي بوشماوي في هذا المحيط، وأقام مؤسسته التي ترسخت، وكبرت معها طموحاته، وكان سلاحه في ذلك المصداقية التي بناها، والتي دعّمت علاقاته مع أهل الاختصاص في هذا المجال خاصة على المستوى الدولي.
لقد كان يسعده القول: « وجودنا في مجال النفط ونحن من العالم الثالث كان مغامرة نظرا لما يتطلبه هذا المجال من استثمارات طائلة، وتقنيات دقيقة، وكفاءة عالية الى جانب عامل المخاطرة المتمثل في عدم التأكد من الحصول على نتائج، إلا ٲننا بفضل العزيمة والجرأة استطعنا التغلب على جميع هذه الصعوبات وخضنا منافسات شرسة مع شركات عالمية رائدة، وشاركنا في طلبات عروض وفزنا بها، وانجزنا مشاريع طاقية في تونس وكذلك في مصر. »
يمكنني الجزم، ان هادي بوشماوي، كان رائدًا وصاحب رؤية إستشرافية ورجلًا ملتزمًا يؤمن بأهمية الابتكار الدائم وبروح المغامرة لتحقيق النجاح.
إنّ من مفاتيح نجاح هادي بوشماوي أيضا، هو قناعته الراسخة بدور التكوين، في تثمين الموارد البشرية وتنميتها وحسن تسييرها.
وانطلاقا من هذه الرؤية لم يتردد في انتداب التقنيين والعمال التونسيين ، والاستثمار في تكوينهم والارتقاء بمهاراتهم، مراهنا على قدرتهم ولم يبخل عليهم بالتحفيز والتكوين وفتح الٱفاق العلمية امامهم شعاره في ذلك المشروع هو : الانسان أولا.
لقد كان لي شرف التعامل والتحاور مع الراحل في مناسبات عديدة حول فضاء المال والأعمال خاصة عندما تقلدت مسؤوليات في البنك الذي كنت اعمل فيه. كانت وجهات نظره كنزًا، وخبرته نبعًا نهلتُ منه الكثير.
وأذكر اننا في البنك كنا نعتمد على تصنيف الحرفاء RATING وكانت شركات هادي بوشماوي تتصدر القائمة ، ليس فقط بالإعتماد على صلابة القوائم المالية، بل أيضا وخاصة على المصداقية في التعامل حيث كُنَّا نرى وكأنّ شركاته تعتمد المثل البريطاني القائل: « وعدي هو التزامي » (MY WORD IS MY BOND).
وعندما استلمتُ وظيفة مدير مركزي للخزينة، اعتمدنا هذا المثل بالذات و خاصة في عمليات غرفة التداول في السوق النقدية و التي تجري فيها المعاملات بمبالغ طائلة عبر الهاتف (أي علي المصداقية أولا ) قبل التعزيز بالسويفت الملزم .
وعن نظرته الاستشرافية ، يسجّل تاريخ تونس الحديث ان هادي بوشماوي كان من أشد المعارضين لإقامة مشروع المجمع الكيميائي في منطقة خليج قابس في قلب الواحة وعلى ضفاف شاطئ قابس الجميل وحذر من تداعياته البيئية الكارثية على المنطقة مستقبلا، وها ان الأيام تكشف صواب ذاك الموقف وتلك الرؤية ، حيث لم تعد قابس تلك المدينة الجميلة الخلابة بل عمّ الخراب واحتها، وتلوث بحرها وجوها، واكتوى ساكنوها بويلات السموم التي تنفثها المداخن التي تعلو المجمع الكيميائي .
وهكذا، كان الرجل سابقا لعصره ، وطرح اشكالا يُطرح اليوم فكريا وسياسيا على كل دول العالم وتقام من اجله مؤتمرات : « كيف التوفيق بين المردودية الاقتصادية والانعكاسات البيئية للمشاريع المقامة ولمن الأولوية ؟ »…
إنحاز هادي بوشماوي دون تردد إلى البيئة ولو استمعوا اليه حينها لما واجهت مدينة قابس اليوم هذا الكابوس.
جانب اخر كان لا يقل أهمية في شخصية رجل الاعمال الناجح ، انه البعد الاسري والإجتماعي ، ولكن الراحل كان يرفض نشره واستعراضه تعففا وتواضعا والتزاما بقيم أخلاقية ترى في العمل الاجتماعي والخيري واجبا لا ينتظر جزاءا ولا شكورا.
ان هادي بوشماوي درس وعبرة وتجربة تحتاجها تونس اليوم في الظرف الاقتصادي الصعب الذي تمر به… درس يقول : إن النجاح وصفة ممكنة إذا صدقت العزائم وترسّخ الطموح مع عقلانية الأداء… وعبرة تقول ان المستحيل ليس تونسيا إذا توفرت الإرادة والمصداقية.
رحل هادي بوشماوي، لكن روحه الطليعية وجرأته وقيمه لا تزال حية في جميع أبناءه اليوم. وسيظل مصدر إلهام للجميع وسيظل كذلك لأجيال القادمة.
Charity organization embodying the social and societal commitment of the HBG group.