آخر لقائي بالمرحوم هادي بوشماوي كان في قصر بلدية تونس العاصمة بالقصبة إذ التقيته صدفة. كان اللقاء ودي جدا و خاصة بعد غياب طويل كنت أثناءه أعمل كخبير فلاحي أممي في إفريقيا. قبل كل شيء أريد أن أترحم على روحه الطاهرة . وجدته مثل عادته من الأخلاق العالية و اللطف و الاحترام المتبادل و الشجاعة رغم حالته الصحية أنذاك و كنت متأثرا ومستشعرا مكانة ذلك الرجل العظيم الذي لم يستسلم لطوارئ الحياة وابتلاءاتها. لقد وجدته كعادته يتحدث بمزيج من الجدية و الدعابة و الود. لقد كان المرحوم هادي بوشماوي شخصية فريدة من نوعها، يتمتع بذكاء عال و شخصية قوية ، طيب القلب و قد كرس طول حياته للعمل . ضل طول حياته وفيا لعلاقاته و عاداته وانتمائه إلى الجهة التي نشأ وترعرع فيها وهي قرية بوشمة من ولاية قابس، وهو فخر لكل سكانها . عرفت المرحوم منذ بدء نشاطه كمقاول أشغال عامة شاب في مقتبل العمر ، حيث قام ببناء العديد من المنشات (مدارس /فنادق/مراكز تكوين…الخ) في قابس ومدن أخرى. وعلى الصعيد المهني تعاملت معه من خلال المشاريع الإنشائية التي نفذها بكل نجاح في القطر الليبي في سبعينات القرن الماضي حيث عهد اليه انجاز مشروع ضخم يهدف الى تحسين المراعي الطبيعية و تطوير تربية الماشية في ليبيا و يغطي المشروع آلاف الهكتارات المتوزعة على مناطق مختلفة و متباعدة ( منطقة بئر غنم قرب العزيزية و منطقة الزنتان في مرتفعات الجفارة و منطقة مصراطة و منطقة السرت) و تقع كلها في الشريط الساحلي للقطر الليبي والذي يتصف بعوامل مناخية صعبة وقاسية مع ندرة تهاطل الأمطار. وهذا كله يدل على جرأة و شجاعة المرحوم هادي بوشماوي بإقدامه على مشروع في هذا الحجم و الصعوبة وهو كذلك دليل على انه لا يخشى التحديات و قد وضع كل الإمكانيات البشرية و المادية لإنجاحه. ويتمثل المشروع في استصلاح أراض قاحلة ، بعد تهيئتها و شق طرقات بها و حفر آبار للري و إقامة مشاتل لإنتاج ملايين الشتلات سنويا و غرسها و ريها. و قد تم استيراد أجود أصناف البذور من عديد البلدان خاصة من الولايات المتحدة وأيضا من تونس. وأذكر أنه تم استيراد حوالي ثلاث ملايين شتلة هندي أملس من النوع الممتاز من جهة تالة بتونس لغرسها في مناطق المشروع . و قد نجح هذا المشروع نجاحا باهرا بشهادة خبراء من « المنظمة العالمية للزراعة » (الفاو) و الخبراء الدوليين والمحليين. و كنت شخصيا من المشرفين على تنفيذ هذا المشروع من الناحية الفنية البحتة أي في كل ما يتعلق بإنتاج المشاتل و متابعة نموها و إعداد مواقع الغراسة و ريها . تم حفر آبار في مناطق المشروع لري الغراسات و لكن تبين أن منسوب الآبار débit ضعيف جدا و يتطلب ملئ خزانات الشاحنات المعدة للري وقتا طويلا لا يسمح بري الشتلات المغروسة في الوقت و الآجال المناسبة .لذلك تم استعمال خزانات بلاستيكية من نوع خاص تسع لمئات الأمتار المكعبة من الماء يتم وضعها على مسطحات ترابية plates-formes مرتفعة على سطح الأرض مما يسمح بملأ خزانات الشاحنات في وقت قصير جدا بدل الانتظار ساعات أمام الآبار لملئها و بهذه الطريقة تم حل مشكل الري . و يرجع الفضل لذلك إلى المرحوم هادي بوشماوي و قدراته على تخطي المشاكل و تذليل الصعوبات. كان المرحوم متمكنا بأدق التفاصيل الفنية والإجرائية وبالمخططات الهندسية، له نظرة استشرافية ،شديد الحرص على مستلزمات الجودة وكان يؤطر منظوريه من مهندسين وخبراء وفنيين وكذلك من العمال بذكاء وبخبرة سنوات طويلة من العمل الميداني ويقدم إقتراحات وحلول صائبة ومفيدة. كنا نعقد العديد من الاجتماعات مع المسؤولين على تنفيذ العمل الميداني و كانت هذه الاجتماعات تنتهي غالبا في ساعة متأخرة من الليل حرصا على تنفيذ بنود العقد واحترام البرنامج المخطط له. كانت هذه الاجتماعات تعقد دوريا في جميع حضائر(campements) المشروع و ذلك في بئر غنم بمدينة الزنتان ، وأيضا في مصراطة و السرت. و في كل زيارة عمل كان المرحوم يتفقد الحضائر بدقة وبتركيز حيث تشمل هده الزيارات المشاتل و الغراسات و أبار الري و مولدات الكهرباء و مخازن قطع الغيار و كذلك ما يهم العاملين في المشروع من مطعم و مبيت و سفر إلى تونس لقضاء عطلهم . و قد كانت علاقة المرحوم بجميع العاملين علاقة احترام متبادل و غالبا ما كان يلبي جميع متطلبات العمال وهذا دليل أخر على طيبته وإنسانيته. و أذكر أيضا اقتحامه مجال الطاقة حيث قام بمد ألاف الكيلومترات من أنابيب الغاز و البترول و خاصة قيامه بإنشاء أول منصة بترولية عائمة في العالم العربي والافريقي يقوم بها مقاول من القطاع الخاص ،في عرض خليج قابس. كان المرحوم يعطي أهمية كبيرة إلى تنظيم العمل و كان يشرف بنفسه على تنظيم وتنسيق جميع أنشطة المقاولة مثل الشؤون المالية و الإدارية و الشؤون الفنية و الموارد البشرية و حتى الجزئيات مثل مخزن قطع الغيار وورشة تصليح الشاحنات و تسريح العمال لقضاء عطلهم إلى آخره ، مع مساعديه ومسؤولي الشركة. و توفر المقاولة في حضائر العمل وجبات الطعام في فطور الصباح و الغداء والعشاء .و يقيم في كل حضيرة ما بين 800 و 1000عامل في ذروة العمل من مجموع ما يناهز الثماني حضائر .كما يتوفر لجميع العمال ظروف الراحة في مناطق صحراوية صعبة اذ كانوا يتمتعون بسكن لائق مجهز بمكيفات و إنارة كهربائية و ظروف معيشية حسنة . واني وفي هذه السطور، أردت أن اعبر عن اعترافي بالجميل والشكر إلى المرحوم هادي بوشماوي طيب الله ثراه و ما تعلمته منه من إنضباط وجدية وحزم و حسن التنظيم في العمل والنظرة الاستشرافية لتطوير المشاريع. والفضل يرجع له في اكتسابي الخبرات الميدانية والفنية في إدارة المشاريع الزراعية والتي فتحت لي أبواب انتدابي لاحقا للعمل بمنظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (FAO). و في الختام أود القول إن المرحوم و من خلال المشاريع التي نفذها كان لها إشعاع و دور كبير في تنمية ولاية قابس و الولايات المجاورة لها داخليا ووطدت عرى التكامل الاقتصادي مع الدول المجاورة كليبيا، ومكنت من تشغيل الالاف من الأيدي العاملة التونسية وخاصة تدريبهم وتكوينهم في مختلف المجالات الفنية والعلمية. رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فراديس جنانه.
Organisme caritatif matérialisant l’engagement social et sociétal du groupe HBG.
منظمة خيرية تجسد الالتزام الاجتماعي والمجتمعي لمجموعة هادي بوشماوي